تشرح سلسلة المحاضرات الأولى في دراسة الكابالا المفاهيم الأساسية المتوجب معرفتها لكل من لديه الرغبة والإهتمام في دراسة الكابالا. تتألف هذه السلسلة من المحاضرات من ثلاثة دروس تشرح ماهية علم الكابالا وكيفية الإدراك الحقيقي للواقع مع شرح لهدف وجود الخليقة وسبب المعاناة وضرورتها ودورها في نمونا الروحي.
الدرس الاول
محتويات موضوع هذا الدرس
ثلاثة أسباب جعلت علم حكمة الكابالا ما يسمى بالعلم الخفي:
تعمّد علماء الكابالا إخفاء هذا العلم من العامّة.
كتب علماء الكابالا جميع النصوص بلغة خاصة, وهي لغة الفروع.
تدرس الكابالا ما هو خفيّ عن إدراكنا الحسّيّ.
الشرط الوحيد لدراسة الكابالا هو الرغبة الصادقة في اكتشاف معنى الحياة.
دعونا نبدأ بلمحة عامة عن الكابالا لأن هناك قدراً كبيرا ً من الإلتباس حول هذا الموضوع. هناك الكثير من المعلومات المختلفة حول الكابالا. هناك آلاف من الكتب في كل عام تنشر حول هذا الموضوع، والكثير من هذه الكتب لا يوجد علاقة فيما تُناقشه في مواضيعها على الإطلاق مع الكابالا؛ انهم مجرّد نوع من إبداعات من خيال الناس في ما يعتقدون أنها من الممكن أو ما ينبغي أن يكون معنى الكابالا معتمدين على حدسهم وخيالهم، وهذا ليس ذنبهم. فهناك شوق كبير لمعرفة الكابالا وماهيتها ومصدرها وتأثيرها علينا وهل من الممكن إستخدامها في تحسين حياتنا.
لماذا تدعى الكابالا "بالعلم الخفيّ"؟ دعيت الكابالا بالعلم الخفيّ لأسباب عدة منها أنه قد تم عمدا ً تخبئة حكمة الكابالا ومصادرها عن العامّة من قبل أولئك الذين كانوا يقومون على دراستها والبحث فيها. بدأت الكابالا منذ أربعة آلاف سنة مع سيدنا ابراهيم عليه السلام، في تلك الفترة من الزمن، لم تكن الكابالا متوارية ومحجوبة، بل كانت تُدرَس على نطاق واسع. جميعنا نعلم أن أبونا وسيدنا ابراهيم عليه السلام, فتح خيمته لإستضافة الغرباء والعابرين في طريق سفر مُعبرًا عن حسن ضيافته. فكان يستضيف الناس من كل البلاد من حوله, مظهرا ً كرمه نحوهم بتقديم الطعام ومكان للإستراحة من عناء الطريق وكان أيضا ً يُعلمهم علم حكمة الكابالا. فأن الناس الذين كانوا يعيشون في أيام سيدنا إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب نفوس صافية ومهَذبَّة لفهم الحكمة بشكل طبيعي أكثر من النفوس التي تعيش الآن في وقتنا هذا.
ولكن شيئا ً ما حدث في بداية عصر التقويم المشترك فبل ألفي سنة مما جعل من المستحيل على الناس من هذا الجيل وعلى مدى الألفي سنة التي تبعتها أن يُدركوا أي شيء عن مفهوم علم الكابالا. ومن هذه النقطة أخذت الأديان المختلفة بالظهور، وهذه هي النقطة التي بدأت فيها التكهّنات حول كيفيّة تركيب هذا العالم، وتركيبة الكون، ومن هو الخالق، وهكذا نشأ في مُخيِِّلة الناس ووفقا ً لمبدأ خاص الذي تخطت البشرية من خلاله إلى المقدمة في تطورها. هذه الصفة والخاصِّيَّة التي تحلت بها النفس البشرية في هذا الزمن سلبت قدرتهم على الإدراك النقيّ والطاهر للأمور، لذلك أخفى علماء الكابالا الحكمة عن الناس.
واذا قلنا إن كتب الكابالا دائمًا في حوذتنا, هذا جيد, ولكن المشكلة هي ان علم الكابالا دعي بالحكمة الخفية لأن الكتب نفسها مكتوبة بلغة خاصة غير المتعارف عليها لدى الناس. فجميع كتب الكابالا مكتوبة بلغة تسمى "لغة الفر وع" والتي فيها إستخدم علماء الكابالا كلمات ومصطلحات من عالمنا هذا للتعبير عن المفاهيم الروحية بلغة نستطيع إدراكها وبالتالي فهم العالم الروحي وبنيته, لقد إستخدموا كلمات لأشياء معروفة ومفهومة لدينا على سبيل المثال: كأس, كتاب, طاولة, رحلات وحروب و...الخ . كل هذه الأسماء والمصطلحات التي نراها في الكتب التي كتبها سيدنا موسى عليه السلام وكتب الكابالا الأخرى كلها كلمات ومصطلحات من عالمنا ولكن في الواقع أنها لا تُشير أو تتحدّث عن أي شيء في هذا العالم. كلها كلمات ذو معاني مضمورة, فالكابالا تدرُس بنية العالم الروحي والقوة العليا بمختلف درجاتها والمصطلحات التي تستخدمها هي لهدف شرح وتفسير العالم الروحي وكيفية عمل القوة العليا وإدارتها لعالمنا الذي نعيش فيه.
إذا ً استخدم علماء الكابالا لغة خاصة لشرح وتفسير ما كانوا يتحدثون عنه حقا ً، وفقط الطلاب الذين أحرزوا مرحلة معيّنة في مجال دراسة هذه حكمة يكونون قادرين على الفهم ومعرفة المقصود. يجب علينا أن تفهم أن العالم الذي نعيش فيه ليس عالم الأسباب، بل هو عالم من نتائج الأحداث. أي أن كل ما يحدث هنا في عالمنا أسبابه وجذوره ليست هنا بل في العالم الروحي. وبالمقابل أن كل ما نفعله في هذا العالم ليس له أي تأثير على الإطلاق على العالم الروحي الأعلى حيث أنه مصدر كل شيء, وأن كل الأشياء التي نراها في هذا العالم جذورها كامنة في العالم الأعلى. لا يوجد أي شيء يمكن فعله هنا يكون له أي تأثير على العالم الأعلى، ولهذا السبب لا يوجد أي شيء نستطيع عمله من أجل حلّ مشاكلنا التي نواجهها في هذا العالم.
فالطريقة الوحيدة والفعالة في حلّ مشاكلنا هي صلتنا بالمصدر أي بالمستوى الجذريّ للأمور والأحداث, وهذا هو جوهر بحث علم الكابالا.
إذًا واقعنا ككل مبنيّ بطريقة أن هناك عالمنا الذي نعيش فيه وهناك عالم فوقه إذا جاز التعبير. لغة الفروع تدلّ وتشير إلى ما هو موجود هنا في هذا العالم أي تتحدث عن أشياء ومصطلحات نتداولها، إذا أخذنا كلمة "أسرة" على سبيل المثال والتي نقرأ عنها في أحد كتب الكابالا؛ فالموضوع يبدو وكأنه يسرد قصة أسرة إنتقلت من مكان إلى مكان آخر أو إلى "أرض" أخرى، ولكن في الواقع الموضوع هنا لا يتحدّث عن أسرة في المعنى الذي نعرفه على الاطلاق. بل يتحدّث علماء الكابالا هنا عن القوات العليا والتي في الواقع خلقت هذه الاحداث الحاصلة في عالمنا وجعلتها تتجلى بهذه الصورة التي نراها. الدارس الحكيم فقط يستطيع أن يفهم حقيقة ما يجري هنا. وهذا هو مستوى لغة الفروع، وهذا هو مستوى الجذر أي المصدر. ما لم يتمكن الشخص من أن يتعلم كيف يقرأ ويفهم المفاتيح والمعاني الرئيسية لهذه اللغة التي تدعى "لغة الفروع"، سيستمرّ في النظر إلى الأشياء في معناها العالمي المجرّد.
نتيجة للتعمّد في حجب علم الكابالا عن طريق إستخدام لغة الفروع , وأيضا ً بسبب عدم وجود أو توفر المدرسين المتخصصين في تعليم الكابالا, وبما أن الناس ما زالوا في حاجة إلى المعرفة , هذه كلها كانت لديهم كدافع في إبداعات خيالهم، فقد كان عليهم خلق وتلفيق أمور عن أشياء لم يستطيعوا تفسيرها، والسلوك في هذا الطريق من دون التعليم الصحيح ومع عدم وجود البنية الداخلية على القدرة على فهم لغة الفروع التي من خلالها يستطيعون فهم علم الكابالا.
هناك الكثير من الأساطير والخرافات التي تحيط بمفهوم الكابالا الحقيقي, والشائع من هذه الأساطير هي أن الكابالا عبارة عن مذهب باطني "أي الإيمان بأن المعرفة المباشرة للخالق والحقائق الروحية يمكن أن تتم عن طريق التأمل المُبهم , وليس عن الإدراك الحسّيّ العادي", وذلك بسبب أن علم الكابالا الحقيقي كان مخفيا ً منذ الآف السنين وإلى يومنا هذا وإن القليل من الناس يعلمون ما هو جوهر وموضوع الكابالا . فمنذ الآف السنين قد أعطيتْ البشرية أشياء كثيرة ومتنوعة بإسم الكابالا, أشياء مثل التعويذات واللعنات وحتى المعجزات, كل شيء ما عدا المنهج الصحيح للكابالا.
ففي الواقع لا يوجد أي علاقة بين كل هذه الأشياء مع الكابالا, ولكنها قد ترابطت بشكل خاطىء بمعنى نظرية علم الكابالا في خلال المئة عام الماضية.
فما هي الكابالا؟ الكابالا هي علم , نعم علم ... فعلم الكابالا هو الطريقة الوحيدة لإكتشاف العالم الروحي والحياة الروحية ومعرفة الخالق والذي هو السلطة والقوة العليا التي تدير حياتنا. تُعلمنا حكمة الكابالا عن سبب وجود الإنسان. لماذا ولِدَ, ولماذا يعيش, وما هو هدفه في الحياة, من أين أتى, وإلى أين هو ذاهبٌ.
فببساطة هناك قوة عليا واحدة فوق الجميع وهي الخالق الذي يحكم ويسيطر على كل ما في واقعنا . وكل القوات التي في العالم والمدركة لدينا مثل الجاذبية والكهرباء كلها تنحدر منه بينما هناك قوات ذات نظام وترتيب أعلى والتي تعمل في واقعنا في حين تبقى متوارية عن أنظارنا.
يحتوي علم الكابالا على نظام ومعرفة بُنية هذه القوات المتوارية عنا وعلى سلسلة القوانين التي من خلالها تؤثر على حياتنا. ويعلمنا أيضا ً كيف نُنمّي حاسة إدراكنا وفهمنا لهذه القوات وإكتشاف هدفها الوحيد بتوصيلنا إلى مرحلة إظهار وحي الخالق خلال حيانتا هنا في هذا العالم. فعلم الكابالا يُنمّي في الإنسان حِسٌّ لنقد وتحليل الأمور, يُنمّي فيه حدس واضح والقدرة على البحث الواعي بشأن نفسه والعالم المحيط به. خارج نطاق نوعية هذه الصفات المذكورة لا يستطيع الإنسان أن يبحث في معرفة هذا العالم والعالم الروحي الأعلى.
والسبب الثالث لتسمية علم الكابالا "بالحكمة الخفية" أن علم الكابالا يتعامل مع ما هو خفيّ عن حواسنا الخمسة أي عن إدراكنا الحسّيّ. فعلم الكابالا يُجيب عن سبب وجود الإنسان وعن "ما هو معنى الحياة؟" هذا هو السؤال الغامض، فإن الشخص الذي يبحث في كل مجال متوفر من حوله من العلوم المختلفة ولا يمكنه العثور على الإجابة في ما يقوله العلم والفنّ والأدب وعلم النفس ، فهذا الشخص ببساطة ليس راضيا ً ومقتنعا ً عن نتيجة بحثه, وفي عدم إيجاده جوابا ً مقنعا ً لسؤاله "ما معنى حياتي؟" في هذه المرحلة يكون الشخص على استعداد لتخطّي إلى ما وراء عالمنا الماديّ في إدراكه للعالم الروحي.
تقول لنا كتب الكابالا أننا نعيش في واقع كامل. هناك واقع كبير ومتكامل ونحن موجودين فيه، إلا أننا لا نشعر به. فحواسنا مقصورة ومحصورة في إطارعالمنا هذا فقط ولهذا نحن لا نعرف ماذا سيحدث في اللحظة القادمة من حياتنا, أو متى ، لا نعرف من أين أتينا ، ولا إلى أين نحن ذاهبون.
وكما سبق وذكرنا أن هناك واقع كامل وشامل، هذا الواقع مقسّم من خلال نظام يسمى "العوالم". هذه العوالم الخمسة تشكل الواقع كامل، ومن خلالها هذه العوالم والتي ينزل من خلالها النور الكامل بقوته ولكن تتقلص قوته وتقلّ في كل مرحلة من إنحداره إلى عالمنا إلى أن يصبح في الحالة التي نراه فيها. رجاء أنظر شرح المفردات
يسمى العالم الأول "عالم آدم كادمون،" العالم التالي "عالم أتزيلوت" والتالي "عالم بيريا" ثم "الم يتزيرا" و"عالم آسيا". يمكنك اعتبار هذه العوالم درجات أو مستويات من الوعي، أو مقياس لتقدير قربك أو بعدك من الهدف في مجال الواقع ككل في مقدار إرتباطك وإدراكك للعالم الروحي، حتى وفي النهاية تصل الى نقطة الانفصال والتي تدعى "الحاجز".
هذه هي العوالم الروحية. تحت هذا الحاجز يوجد عالمنا. هنا ، ليس لدينا أي شعور على الاطلاق بالعالم الروحي، والذي هو المكان الذي نعيش فيه في الواقع والمكان الذي أتينا منه. إذا كنا ندرك هذا فإننا نكون قادرين على فهم القوة العليا التي تدير حياتنا، ونصبح مرتبطين بها إلى درجة أننا لن نكون قادرين على العيش في الحياة بدون وجود هذه القوة في حياتنا.
كما أن الكابالا كانت متوارية عنا، كذلك هذه القوة أيضا ً كانت متوارية عنا وتناقصت منخلال النظام المؤلف من ١٢٥ درجة, كسلم ممتدا ً من الأعلى إلى عالمنا هذا. وُجِدَ علم الكابالا لهدف مساعدة الإنسان في العودة إلى أصلِه المتجذر في العالم الروحي من خلال ١٢٥ درجة.
حتى يتسنى لنا أن نحقق هذا، فإن هذه القوة الخيرة والتي ندعوها "الخالق" خلق هذا النظام عمدا ً. بعبارة أخرى، ان الخالق عمل نظام العوالم الروحية بدرجاتها, ووضع علم الكابالا بين أيدينا كوسيلة يستطيع الإنسان من خلالها الإحساس بالعالم الروحي والعيش فيه. علم الكابالا هو الوسيلة الوحيدة لإحراز العالم الروحي.
الآن، وفي هذه المرحلة، يحتاج الشخص الى ان يبحث ويدرس طبيعته البشرية أي "الأنا" وما يحتاج عمله حتى يستطيع الشعور بالعالم الروحي ودخوله. اليوم نحن نعيش في عصر مميّز وفي جيل نجِد فيه أن الرغبة الى الأمور الروحية متيقظة لدى الكثيرين من مختلف الأعمار ومن مختلف مستويات ومجالات الحياة. لذلك فتح علماء الكابالا المجال أمام الجميع ولكل من لديه الرغبة في البحث والدراسة.
كما قلنا في البداية أن كتب الكابالا مكتوبة بلغة الفروع وأنه يصعب فهمها للغاية . ولكن هبة الكابالا في جيلنا هي عندما انفتحت على العالم كله منذ عام ١٩٩٥ وخاصة ً لأولئك الذين في حاجة حقة لها ، فالكتب المتوفرة لدينا اليوم, أعدّت خصيصا ً من أجلنا. فإن كل الكتابات والتعليقات والمواضيع التي كتبها صاحب السلم وابنه وتلميذه الرابش لم تكتب لأؤلئك الذين أحرزوا العالم الروحي بل كتبت للأشخاص الذين يرغبون في إحراز العالم الروحي لتساعدهم في إرتقاء درجات السلم.
هذه الكتب ستكون مصدر بحثنا في الدروس القادمة. سنبحث في الأسباب التي تحوُل بيننا وبين دخول العالم الروحي ، وما هو الذي يسمح لنا بالدخول إلى العالم الروحي، والطريقة المُوحى بها في علم الكابالا من خلال كتب ومؤلفات عالم الكابالا صاحب السلم.
تابعونا في الدرس القادم , شكرا ً وإلى اللقاء.